السهروردي المقتول: فلسفة النور

السهروردي المقتول: الكاتب والفيلسوف

مقدمة

يُعد الشيخ شهاب الدين السهروردي أحد أبرز الفلاسفة والمتصوفين في العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى. اشتهر بلقب “السهروردي المقتول”، وهو عنوان يرمز إلى نهايته المأساوية التي قادته إلى الموت في شبابه. تعد فلسفته من أبرز وأعمق المدارس الفكرية في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وقد أثرت في العديد من المفكرين والباحثين. وبالرغم من أن حياته كانت قصيرة، إلا أن أعماله تركت بصمة عميقة في ميدان الفكر الفلسفي، وخاصة في ما يتعلق بالعلاقة بين العقل والنور، وبين الفلسفة والتصوف.

المولد والنشأة

وُلد شهاب الدين السهروردي في مدينة سهرورد (التي تقع في إيران حاليًا) في عام 1154 ميلادي. تعود أصوله إلى أسرة ذات مكانة اجتماعية مرموقة في تلك الحقبة، وهو ما جعل له حظوة كبيرة في تلقي التعليم والرعاية. تلقى السهروردي تعليمه في مدن إسلامية متعددة مثل أصفهان ودمشق، حيث تعلم على يد العديد من العلماء والفلاسفة الذين أثروا في فكره وتوجهاته. تمحورت بداية دراسته حول الفقه والشريعة، لكنه سرعان ما بدأ يتجه نحو الفلسفة والتصوف.

فلسفته ورؤيته الفكرية

تميزت فلسفة السهروردي بتوجهها الميتافيزيقي العميق الذي جمع بين المعرفة العقلية والعرفانية الروحية. من أبرز مفاهيمه كان “نور المعقولات”، الذي يرى أن النور هو أساس الوجود، وهو ما يعد من أبرز ما يميز فلسفته عن غيرها من المدارس الفكرية. في رأي السهروردي، الكون كله مكون من نور وظلام، وهذا النور ليس مجرد ضوء مادي بل هو الوجود نفسه، الذي يتنقل عبر الكائنات ويمنحها وجودها.

وذهب السهروردي إلى أن كل شيء في الكون يعكس درجة من النور، ويعيش الإنسان في عالم متصل به مباشرة. هذا النور يشمل العقل البشري الذي يعتبره السهروردي وسيلة للاقتراب من الحقيقة الكونية. يرى أن العقل ليس مجرد أداة للتفكير العقلاني، بل هو أداة للإشراق الروحي والوصول إلى الحقيقة المطلقة.

كانت فلسفته تندرج تحت ما يُعرف بالفلسفة الإشراقية أو “فلسفة النور”. وقد تميزت هذه الفلسفة بتأكيدها على أن المعرفة الحقيقية لا تأتي من العقل فقط، بل من التجربة الروحية والمعرفة الحدسية التي تتيحها الرؤية الداخلية. وبهذا فإن السهروردي يرفض فلسفة أرسطو التقليدية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، حيث كانت تعتمد بشكل أساسي على المنطق والعقل النظري، ويعتبرها محدودة في تفسير الوجود.

التصوف والعلاقة بين الفلسفة والتصوف

كان السهروردي يوازن بين الفلسفة والتصوف، متبنيًا رؤية لا تفصل بين العلم الروحي والفلسفي. كان يرى أن الفلسفة يمكن أن تكون وسيلة للوصول إلى أعلى درجات الوعي الروحي، لذلك كانت أعماله تمثل تقاطعًا بين العقل والعرفان، بين المعرفة النظرية والتجربة الروحية. كما تأثر السهروردي بشيوخه في التصوف، مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، واكتسب منهم مفاهيم الروحانية والنورانية التي أسهمت في بناء فلسفته.

في فلسفته، كان السهروردي يدمج بين أفكار الفلاسفة اليونانيين، خاصة أفلاطون وأرسطو، وبين التصوف الإسلامي التقليدي. وقد كان يعتقد أن البشر قادرون على الوصول إلى المعرفة الحقيقية من خلال تصفية النفس وتهذيبها، وهو ما يتطلب إطفاء ظلمة الجهل ليحل محلها نور المعرفة. لذلك كان السهروردي يؤمن بأن الإنسان يجب أن يتبع الطريق الروحي من أجل الوصول إلى أعلى درجات الكمال العقلي والروحي.

أعماله الفلسفية

ترك السهروردي وراءه العديد من الأعمال الفلسفية التي تضمن رؤيته للكون والوجود والعقل، وأشهر هذه الأعمال هو كتاب “حكمة الإشراق”، الذي يعتبر من أهم مؤلفاته وأعظم إسهاماته في الفلسفة الإسلامية. يعرض السهروردي في هذا الكتاب فلسفته حول النور والعقل، ويشرح فيه كيف أن العالم يتألف من مستويات متعددة من النور، حيث يمتد النور من أعلى الكائنات السماوية إلى أدنى الكائنات الأرضية.

بالإضافة إلى “حكمة الإشراق”، كتب السهروردي العديد من الكتب والمقالات الأخرى التي شملت مواضيع متعددة مثل الأخلاق والمعرفة والوجود. تميزت هذه الأعمال بلغة فلسفية عميقة وحساسية شعرية تجعل من قراءة هذه الكتب تجربة فكرية وروحية مميزة.

القتل والنهاية المأساوية

كانت حياة السهروردي مليئة بالألم والصراع، حيث لاقى نهاية مأساوية في عام 1191 ميلادي، حين قُتل بناءً على أمر من السلطان صلاح الدين الأيوبي. كان السهروردي قد تهم بالهرطقة من قبل رجال الدين، وذلك بسبب أفكاره التي كانت تُعتبر مبتكرة وجريئة في ذلك الوقت. وفقًا لبعض الروايات، فقد كان السهروردي قد تعرض للاتهام بالكفر بسبب تعاليمه عن النور والعقل، واعتُبرت أفكاره مخالفَة للمعتقدات الدينية السائدة آنذاك.

قتل السهروردي في سن مبكرة، حيث كان في السابعة والثلاثين من عمره فقط. ورغم ذلك، فإن موته لم يكن نهاية لفكره وفلسفته. فقد استمرت تأثيرات فلسفته في العالم الإسلامي، وامتدت إلى العصور التالية، حيث تأثر بها العديد من المفكرين والفلاسفة، منهم ابن عربي والفارابي وغيرهم.

الإرث الفلسفي للسهروردي

يُعد السهروردي واحدًا من أبرز المفكرين الذين أثروا في تطور الفلسفة الإسلامية، حيث استطاع الجمع بين الفكر العقلاني والتجربة الروحية في إطار متناسق، وهو ما جعل أفكاره تكتسب صفة الخلود في التاريخ الفلسفي. كانت فلسفته مصدر إلهام للعديد من الفلاسفة الذين جاؤوا بعده، وقد تم تبني أفكاره في مدارس الفلسفة الإسلامية المختلفة، خاصة في الفلسفة الإشراقية التي تعد امتدادًا لفكره.

إن النظر إلى السهروردي من زاوية فكره الفلسفي والتصوفي يوضح لنا بُعدًا عميقًا في الثقافة الإسلامية التي تمزج بين العقل والنور، وتؤكد على أهمية التجربة الروحية في الوصول إلى المعرفة الحقيقية. كما أن فلسفته تبين لنا كيف يمكن أن يتناغم العقل مع الروح، وكيف يمكن للإنسان أن يتخطى حدود المادية ليصل إلى أفق أسمى من الوجود.

خاتمة

يبقى السهروردي المقتول رمزًا لفلسفة عميقة تدمج بين العقل والروح، وتجسد الصراع بين الفكر المستنير من جهة، والعقليات التقليدية من جهة أخرى. ورغم موته المبكر، فإن فلسفته تبقى خالدة في طيات كتبها، وتستمر في إلهام العديد من المفكرين في العصر الحديث.